فكر وادب ولغه

الفجر

كتبت .ا.منى الحضرى

جميل أن تحَـمدي لي أَنيّ من جــعلتك تواظبيـن على صــلاة الفجـــر، وكم تغَـارين منّى ومن دَأبي عليها، ولا فضــل لي فى ذلك مطلقـاً غاليتي كما قصصت عليكِ مراراً، أجل لا فضل لي فتحـري صـلاة الفجـر إرث عائلي، والفضـل كل الفضـل لجـدتي لأبي، لقد كنت الأثير لديها، وربما الأوحـد، وها أنا أذكرها جيداً وهي توقظني معها قبل الفجر بساعة وأنا حديث السن لم أبلغ الخامسة من العمر ثم تجلسني بجوارها وهى تصـلي وتصـلي، ثم تُجلسـني على حِجــرها وتسـتعمل أناملي الصغيرة وهى تسّبح بحمد الله الحفيظ. كنت حديث السن لدرجة لا أدرك معها جلال ما تفعل بل كنت أظنها تٌداعبني وتٌضاحكني، وكنت أنتظرها حتى تنتهي من صلاتها، ثم تقرأ علىّ ما تحفظه من القرآن وكان قليلاً وتمسح على رأسي وصدري وجبيني. كنت رجلها المدلل الذى تخاف عليه من أعين الناس والأقربين، وكثيراً ما ردّدت على مسامعي بأنها لا تُدّللني فالرجال لا يُدّللون بقـدر ما تريد أن تَشبع منيّ، وتغرقني حـباً بقدر حبها لي، فأنا حُبها وحَبيبها ورُجلها، وليت الموت يمهلها حتى تراني رجل العائلة بحق، وكم تثق بي وبأني أفهم ما ترمي إليه، ويقيناً لن أمّل منها ومن إصرارها على أن تكون كظِلي، والأيام كفيلة بأن تجعلني أُقدّر عظيم شَغفها بي، وكطفل لم تمنعني اللعب مع أقراني بل تركتني ألعب لكن على مَرأى ومسمع منها. أذكر قبل رحيلها بأيام رأيتها تبكي، وعندما قلت لها أنها المرة الأولى التى أراها تبكي فيها أجابتني عبر دُموعها: ” بل بكيت كثيراً من قبل، فقط كنت أَحرص على دموعي من أن تُرى، ولكنّى بَكيت حزناً ودَمعت فرحاً وأنت أعز أفراحي ….. ” ولن أنسى ما حييت بوحاً من صدق بثتني إياه، يبدو اعترافاً وربما ندماً، ورغم قسوة ما سمعت لم يتغير إحساسي نحوها مطلقاً، وكأني اسمعها الآن ولم تزل مرارة كلماتها ملء حلقي: ” كنت عزيـزاً يا ولدي، رُزقنا بك بعد خمس سنوات من زواج أبيك، ولكم لعب الشيطان برأسي، وظننتك لن تأتي ولكن رحمة الله كانت أوسع من ألاعيب ذلك الرجيم- كفانا الله شره – تأخّــرت كثيـراً، ويا لَهفي عليك وأتيت وصرت نعمتي ونعيمي، ولكن ولأن لا كمال على الأرض عشت بذنبي نحوها، ظلمتها كثيراً وأدميت قلبها بلا جَريـرة ولا عيب، عن والدتك أتحدث، زوجة ولدي الطيبة ابنة الأصول التى تحّملت جبروتي، نعم كنت جــبارة يا ولدي، تحملت إهانتي لها وهي صـامتة، كنت أعاقبها لأنها بكًرت ببنت ولم تحقق حُلمي وأنا حُلمي رجل، أتلفت أعصابها وأرقت مضجـعها، وكم نامت وأنهاراً من الدمـوع على خـديها، إلى أن تمكن الشيطان من إنسانيتي وقررت أن أفرّق بين أبويك وأرسلتها لبيت أبيها، ونسجت خــيوطي حول الزوج المُحب. وقتها لم أكن أرى سوى نفسي وحُلمي، وللحق لم يقف أبوك فى وجهي ولم ينهرني، وكدت أخطب له واحدة من الكثيرات اللاتى كنت أحصيهن أمامها بلا رحمة، ولم أيأس حالما صارحـني أبــوك بأنه لا يريد غير أمك زوجـاً، ولكنه إكراماً لي لن يعيدها للبيت الآن طالما لا أريـدها فيه. أتدري! أسعدني جداً أن علمت بعدها بسنوات أنه كان يزورها هي وأهلها، وأن كلماته ما كانت إلا بــراً بأمه العجـوز، وعادت أمك لبيتي عندما مَرضـت، عادت لتخـدمني وتمرضّني وتسهر على راحــتي، ولكني لم أغفـر لها حـرماني من حُلمي وقتئذ، فأنا على فراش المـرض، وربما الموت بلا رجلي الذى طالما حُلمت به. هكذا زيّن لى الشيطان ظُلمي إياها، وحَملت الصابرة الوفية فتوعدتها وأقسمت لها بأن لا عَيش لها فى ذاك البيت إلا بأن تهدي لي رجل، والآن أبكي ظُلمي إياها، وأتمنى لو تغفر لي، ولكن كيف السبيل لذلك ؟!، ليتنى استطيع أن أطلب منها غُفراناً ولكني حماتها يا ولدي، وللحماة هيبة مصون لا تمس، فقط أريد منها أن تتفّهم، وغداً سيواريني التراب وستصبح هى سيدة الدار، وأنت وأخوتك حولها – لا حَرمها الله منكم – فلتكن رَجُلها كما يجب أن يكون الرجل، ولتحرص على أن تجعلها بعينيك تلك الأصيلة المحبة الصابرة. أتدري! مع الوقت أدركت أنك كنت هدية الله لأمك لا لي كما توهمت، وليغفر لي الله ذلة عمري، ولتدعـو لي ولتطلـب منها أن تغفـر لي ولتتحّـقق من ذلك أرجوك، ولكن عليـك أن تنتظـر حتى أرحـل، هكذا تربينا وهكذا نموت فلتعَدني …. “. ووعَدتها، وَعْدت من كانت كلمتها أَمْـر لا يرد. كانت نادمة، وكنت فى العاشرة ولا أدرك ماذا يعني الندم لمن يشارف على الموت، ولكنها كانت مثلك تأبى بوحــاً قد يريحــها، عـذاب وأي عـذاب وليتك تبوحــين، لا عليك إذن غاليتي. أما الآن وقد كبرت وذقت غصـة الندم، فما بالك بمن ينـدم وهو ميت لا محـالة، وإليكِ اعترافي: جــدتي كانت ولم تزل الأولى فى حــياتي، أما أمي فهى كل حــياتي، وأنتِ ….!! أنتِ ضوء حـــياتي، تغيبين فيغيب الضياء، كالفجـر أنتِ فى هِمته وبـرائـتـه وسَـناه، فلا تعاقبيني بالغيـاب، فلا يـوم بلا فجــر ولا فجــر من دونـك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى